قال الله تعالى : [ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه .. إلى.. ولا تسألون عما كانوا يعملون ] سورة البقرة من آية (130) إلى نهاية آية (134).
المناسبة :
لما ذكر تعالى مآثر الخليل إبراهيم عليه السلام ، وقصة بنائه للبيت العتيق منار التوحيد ، أعقبه بالتوبيخ الشديد للمخالفين لملة الخليل من اليهود والنصارى والمشركين ، وأكد أنه لا يرغب عن ملته إلا كل شقي سفيه الرأي ، خفيف العقل ، متبع لخطوات الشيطان.
اللغة :
[ سفه نفسه ] امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه : الخفة ومنه زمام سفيه أي خفيف
[ اصطفيناه ] أي جعلناه صافيا من الأدناس ، مشتق من الصفوة ومعناه تخير الأصفى ، والمراد اصطفاؤه بالرسالة والخلة والإمامة العظمى
[ وصى ] التوصية : إرشاد الغير إلى ما فيه صلاح وقربة
[ شهداء ] جمع شاهد أي حاضر
[ خلت ] مضت وانقرضت.
التفسير :
[ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ] أي لا يرغب عن دين إبراهيم وملته الواضحة الغراء ، إلا من استخف نفسه وامتهنها
[ ولقد اصطفيناه في الدنيا ] أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة
[ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] أي هو من المقربين الذين لهم الدرجات العلى
[ إذ قال له ربه أسلم ] أي استسلم لأمر ربك ، وأخلص نفسك له
[ قال أسلمت لرب العالمين ] أي استسلمت لأمر الله وخضعت لحكمه
[ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ] أي وصى الخليل أبناءه باتباع ملته ، وكذلك يعقوب أوصى بملة إبراهيم
[ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ] أي اختار لكم دين الإسلام ديناً ، وهذه حكاية لوصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما
[ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] أي اثبتوا على الإسلام ، حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به ، فتموتون مسلمين
[ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ] أي هل كنتم شهداء حين احتضر (يعقوب) وأشرف على الموت ، وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم ؟
[ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ] أي أي شيء تعبدونه بعدي ؟
[ ونحن له مسلمون ] أي نحن له وحده مطيعون خاضعون ، والغرض تحقيق البراءة من الشرك ، قال تعالى مشيرا إلى تلك الذرية الطيبة
[ تلك أمة قد خلت ] الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام وبنيه أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى
[ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ] أي لها ثواب ما كسبت ولكم ثواب ما كسبتم
[ ولا تسألون عما كانوا يعملون ] أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا ، بل كل نفس تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.
البلاغة :
1- [ ومن يرغب ] استفهام يراد به الإنكار والتقريع ، وقع فيه معنى النفي أي لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا السفيه الأحمق ، والجملة واردة مورد التوبيخ للكافرين.
2- التأكيد ب " إن " و " اللام " [ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] لأنه لما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى تأكيد ، بخلاف حال الدنيا فإنه معلوم ومشاهد.
3- [ إذ قال له ربه أسلم ] هو من باب الالتفاف إذ السياق [ إذ قلنا ] والالتفات من محاسن البيان ، والتعرض بعنوان الربوبية [ ربه ] لإظهار مزيد اللطف والاعتناء بتربيته ، كما أن جواب إبراهيم جاء على هذا المنوال [ أسلمت لرب العالمين ] ولم يقل : أسلمت لك للإيذان بكمال قوة إسلامه ، وللإشارة إلى أن من كان رباً للعالمين ، لا يليق إلا أن يتلقى أمره بالخضوع وحسن الطاعة.
4- قوله : [ آبائك ] شمل العم ، والأب ، والجد ، فالجد إبراهيم ، والعم إسماعيل ، والأب إسحاق ، وهو من باب " التغليب " وهو من المجازات المعهودة في فصيح الكلام.
فائدة :
قال أبو حيان : " كنى بالموت عن مقدماته ، لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا ، وفي قوله : [ حضر الموت ] كناية غريبة وهو أنه غائب ولابد أن يقدم علينا مهما طال الغياب ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره.
تنبيه :
[ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] المقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت ، أي فاثبتوا على الإسلام ، ولا تفارقوه أبدا ، واستقيموا على محجته البيضاء ، حتى يدرككم الموت وأنتم على الإسلام الكامل ، كقولك : لا تصل إلا وأنت خاشع.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء