قال الله تعالى : [ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.. إلى.. وأحسنوا إن الله
يحب المحسنين ] سورة البقرة من آية (188) إلى نهاية آية (195).
المناسبة :
لما بين تعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام وأباح للمؤمنين الاستمتاع
بالطعام والشراب والنكاح في ليالي رمضان ، عقبه بالنهي عن أكل الأموال بغير حق ،
ينبه تعالى إلى أن الغرض من الصيام ، ليس الامتناع عن الطعام ، إنما هو اجتناب
الحرام ، ولما كان حديث الصيام يتصل برؤية الهلال وهذا ما يحرك في النفوس خاطر
السؤال عن الأهلة ، جاءت الآيات الكريمة تبين أن الأهلة مواقيت لعبادات الناس في
الصيام وسائر أنواع القربات.
اللغة :
[ الباطل ] في اللغة : الزائل الذاهب يقال : بطل الشيء بطولا فهو باطل ، وفي الشرع
هو المال الحرام ، كالغصب ، والسرقة ، والقمار ، والربا
[ وتدلوا ] الإدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر ، ثم جعل لكل إلقاء ، والمراد
بالإدلاء هنا الدفع إلى الحاكم بطريق الرشوة
[ الأهلة ] جمع هلال ، وهو أول ظهور القمر حين يراه الناس ، ثم يصبح قمرا ، ثم بدرا
حين يتكامل نوره
[ مواقيت ] جمع ميقات وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقيل : الميقات منتهى الوقت
[ ثقفتموهم ] ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ، ورجل ثقف سريع
الأخذ لأقرانه ، قال الشاعر : فإما تثقفوني فاقتلوني فمن أثقف فليس إلى خلود
[ التهلكة ] الهلاك يقال : هلك يهلك هلاكا وتهلكة.
[ سبب النزول ] :
روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم
يزيد حتى يمتلىء ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، لا يكون على حالة
واحدة كالشمس فنزلت
[ يسألونك عن الأهلة ] الآية.
وروي أن الأنصار كانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية لم يدخل بيتا من بابه
بل كان يدخل من نقب في ظهره ، أو يتخذ سلما يصعد فيه ، فجاء رجل من الأنصار ، فدخل
من جهة بابه ، فكأنه عير بذلك ، فنزل قوله تعالى : [ وليس البر بأن تأتوا البيوت من
ظهورها ] .
التفسير :
[ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ] أي لا يأكل بعضكم أموال بعض ، بالوجه الذي
لم يبحه الله
[ وتدلوا بها إلى الحكام ] أي تدفعوها إلى الحكام رشوة
[ لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم ] أي ليعينوكم على اخذ طائفة من أموال
الناس بالباطل
[ وأنت تعلمون ] أنكم مبطلون تأكلون الحرام
[ يسألونك عن الأهلة ] أي يسألونك يا محمد عن الهلال ، لم يبدو دقيقا مثل الخيط ثم
يعظم ويستدير ، ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان ؟
[ قل هي مواقيت للناس والحج ] أي فقل لهم إنها أوقات لعباداتكم ، ومعالم تعرفون
بها مواعيد الصوم والحج والزكاة
[ وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ] أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها
كما كنتم تفعلون في الجاهلية
[ ولكن البر من اتقى ] أي ولكن العمل الصالح الذي يقربكم من الله في اجتناب محارم
الله
[ وأتوا البيوت من أبوابها ] ادخلوها كعادة الناس من الأبواب
[ واتقوا الله لعلكم تفلحون ] أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه
[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ] أي قاتلوا لإعلاء دين الله ، من قاتلكم
من الكفار
[ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] أي لا تبدأوا بقتالهم فإنه تعالى لا يحب
من ظلم أو اعتدى ، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة [ وقاتلوا
المشركين كافة ] وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله : [ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ]
أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حل أو حرم
[ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ] أي شردوهم من أوطانهم ، وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة
[ والفتنة أشد من القتل ] أي فتنة المؤمن عن دينه أشد من قتله ، وقيل : كفر الكفار
أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم ، فإذا استعظموا القتال فيه ، فكفرهم أعظم
[ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ] أي لا تبدأوهم بالقتال في
الحرم حتى يبدأوا هم بقتالكم فيه
[ فإن قاتلوكم فاقتلوهم ] أي إن بدأوكم بالقتال فلكم حينئذ قتالهم ، لأنهم انتهكوا
حرمته والبادي بالشر أظلم
[ كذلك جزاء الكافرين ] أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله
[ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ] أي فإن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفوا عنهم ،
فإن الله يغفر لمن تاب وأناب
[ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ] أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا
شوكهم ، ولا يبقى شرك على وجه الأرض ، ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر
الأديان [ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ] أي فإن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن
قتلهم ، فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، أو فإن
انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم.. ثم بين تعالى أن قتال المشركين لهم في
الشهر الحرام ، يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال :
[ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ] أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام
فقاتلوهم في الشهر الحرام ، فكما هتكوا حرمة الشهر ، واستحلوا دماءكم فيه ،
فافعلوا بهم مثله ((وقيل معناه الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام
الذي صددتم فيه عن دخولها ، وكان ذلك لما صد الكفار النبي (صلى الله عليه وسلم) عن دخول مكة عام
الحديبية في شهر ذى القعدة)).
[ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ] أي ردوا عن أنفسكم العدوان
فمن قاتلكم في الحرم أو في الشهر الحرام ، فقابلوه وجازوه بالمثل
[ واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ] أي راقبوا الله في جميع أعمالكم
وأفعالكم ، واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة
[ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ] أي أنفقوا في الجهاد وفي
سائر وجوه القربات ، ولا تبخلوا في الإنفاق فيصيبكم الهلاك ، ويتقوى عليكم
الأعداء ، وقيل معناه : لا تتركوا الجهاد في سبيل الله وتشتغلوا بالأموال
والأولاد فتهلكوا
[ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ] أي أحسنوا في جميع أعمالكم حتى يحبكم الله ،
وتكونوا من أوليائه المقربين.
البلاغة :
1- [ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ] هذا النوع من البديع يسمى
" الأسلوب الحكيم " فقد سألوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الهلال لم يبدو صغيرا ثم يزداد حتى
يتكامل نوره ؟ فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهلة وكأنه يقول : كان الأولى بكم أن
تسألوا عن حكمة خلق الأهلة لا عن سبب تزايدهم في أول الشهر وتناقصها في آخره ،
وهذا ما يسميه علماء البلاغة " الأسلوب الحكيم " .
2- [ الشهر الحرام بالشهر الحرام ] فيه إيجاز بالحذف تقديره : هتك حرمة الشهر
الحرام ، تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام ، ويسمى حذف الإيجاز.
3- [ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ] سمي جزاء العدوان عدواناً من قبيل
" المشاكلة " وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقوله : [ وجزاء سيئة
فائدة :
لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إلا ويقرن بكلمة (سبيل الله)
وفي ذلك دلالة واضحة على أن الغاية من القتال ، غاية شريفة نبيلة هي (إعلاء كلمة
الله) ، لا السيطرة أو المغنم ، أو الاستعلاء في الأرض أو غيرها من الغايات
الدنيئة.
تنبيه :
كل ما ورد في القرآن بصيغة السؤال أجيب عنه ب " قل " بلا فاء إلا في طه [ فقل
ينسفها ربي نسفا ] فقد وردت بالفاء ، والحكمة أن الجواب في الجميع كان بعد وقوع
السؤال ، وفي طه كان قبله ، إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا.
فائدة :
روي أن رجلا من المسلمين حمل على جيش الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس : سبحان الله ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقال (أبو أيوب الأنصاري) : إنما نزلت هذه الآية
فينا معشر الأنصار ، حين أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقلنا : لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فنزلت [ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ] فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وترك الجهاد في سبيل الله ، فما زال أبو أيوب شاخصا – أي مجاهدا – في سبيل الله ، حتى استشهد ودفن بأرض الروم.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء