قال الله تعالى : [ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه..
إلى .. يأتينك سعيا
واعلم أن الله عزيز حكيم ]
سورة البقرة من آية (258) إلى نهاية آية (260).واعلم أن الله عزيز حكيم ]
المناسبة :
لما ذكر تعالى الإيمان بالله وصفاته القدسية العلية ، وذكر ولايته للمؤمنين ،
وولاية الطاغوت للكافرين ، ذكر هنا نموذجا عن تحكم الطغيان في نفوس الكفرة
المعاندين ، ومجادلتهم في وحدانية الله ، فذكر هنا قصصا ثلاثة ، الأولى في بيان
إثبات الخالق الحكيم والثانية والثالثة في إثبات الحشر ، والبعث بعد الفناء.
اللغة :
[ حاج ] المحاجة : المغالبة يقال : حاججته فحججته ، وحاجة أي بادلة الحجة
[ فبهت ] انقطع وسكت متحيرا ، قال العذري :
فما هو ألا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب.
[ خاوية ] ساقطة
[ عروشها ] العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش
[ يتسنه ] يتغير ويتبدل ، من تسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون وغيرتها
[ ننشزها ] نركب بعضها فوق بعض ، من النشاز وهو الرفع يقال لما ارتفع من الأرض نشز
ومنه نشوز المرأة
[ فصرهن ] ضمهن إليك ثم اقطعهن ، من صار الشيء يصوره : إذا قطعه.
التفسير :
[ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ] تعجيب للسامع من أمر هذا الكافر ، المجادل
في قدرة الله ، أي ألم ينته علمك إلى ذلك المارد وهو " النمروذ بن كنعان " الذي
جادل إبراهيم في وجود الله ؟
[ أن آتاه الله الملك ] أي لأن آتاه الله الملك ، حيث حمله بطره بنعم الله ، على
إنكار وجود الله ، فقابل الجود والإحسان ، بالكفر والطغيان
[ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ] أي حين قال له إبراهيم مستدلا على وجود
الله : إن ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهو وحده رب العالمين
[ قال أنا أحيي وأميت ] أي قال ذلك الطاغية : وأنا أيضا أحيي وأميت ، روي أنه دعا
برجلين حكم عليهما بالإعدام ، فأمر بقتل أحدهما فقال : هذا قتلته ، وأمر بإطلاق
الآخر وقال : هذا أحييته ، ولما رأى الخليل حماقته ومشاغبته في الدليل ، عدل إلى
دليل آخر أجدى وأروع وأشد إفحاما
[ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ] أي إذا كنت
تدعي الألوهية وأنك تحيي وتميت كما يفعل رب العالمين جل جلاله ، فهذه الشمس تطلع
كل يوم من المشرق بأمر الله ومشيئته ، فأطلعها من المغرب بقدرتك وسلطانك ولو مرة
واحدة
[ فبهت الذي كفر ] أي أخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة ، وأصبح مبهوتاً دهشا لا
يستطيع الجواب
[ والله لا يهدي القوم الظالمين ] أي لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة
والبرهان ، بخلاف أوليائه المتقين
[ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ] وهذه هي القصة الثانية وهي مثل
لمن أراد الله هدايته ، والمعنى : ألم ينته إلى علمك كذلك مثل الذي مر على قرية ،
وقد سقطت جدرانها على سقوفها ، وهي قرية (بيت المقدس) لما خربها بختنصر
[ قال أني يحيي هذه الله بعد موتها ] أي قال ذلك الرجل الصالح واسمه " عزير " على
الرأي الأشهر : كيف يحي الله هذه البلدة بعد خرابها ودمارها ؟ قال ذلك استعظاما
لقدرة الله تعالى وتعجباً من حال تلك المدينة ، وما هي عليه من الخراب والدمار ،
وكان راكباً على حماره حينما مر عليها
[ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ] أي أمات الله ذلك السائل ، واستمر ميتاً مائة
سنة ، ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته
[ قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ] أي قال له ربه بواسطة الملك : كم مكثت
في هذه الحال ؟ قال يوما ، ثم نظر حوله فرأى الشمس باقية لم تغب فقال : أو بعض يوم
أي أقل من يوم ، فخاطبه ربه بقوله
[ قال بل لبثت مائة عام ] أي بل مكثت ميتاً مائة سنة كاملة
[ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ] أي إن شككت فانظر إلى طعامك لم يتغير بمرور
الزمان ، وكان معه عنب وتين وعصير ، فوجدها على حالها لم تفسد
[ وانظر إلى حمارك ] أي كيف تفرقت عظامه ونخرت وصار هيكلا من البلى
[ ولنجعلك آية للناس ] أي فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه ، ولنجعلك معجزة
ظاهرة تدل على كمال قدرتنا
[ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ] أي تأمل في عظام حمارك النخرة ،
كيف نركب بعضها فوق بعض ، وأنت تنظر ، ثم نكسوها لحما بقدرتنا ؟
[ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ] أي فلما رأى الآيات الباهرات ،
قال : أيقنت وعلمت علم مشاهدة أن الله على كل شيء قدير
[ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ] وهذه هي القصة الثالثة وفيها الدليل
الحسي على الإعادة بعد الفناء ، والمعنى : اذكر حين طلب إبراهيم من ربه أن يريه
كيف يحي الموتى ؟ سأل الخليل عن (الكيفية) مع إيمانه الجازم بالقدرة الربانية ،
فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان ، ولهذا خاطبه ربه بقوله
[ قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ] أي أو لم تصدق بقدرتي على الإحياء ؟
قال بلى آمنت ، ولكن أردت أن أزداد بصيرة وسكون قلب برؤية ذلك
[ قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ] أى خذ أربعة طيور فضمهن اليك ثم اقطعهن ،
ثم اخلط بعضهن بببعض ، حتى يصبحن كتلة واحدة
[ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ] أى فرق أجزاءهن على رءوس الجبال
[ ثم ادعهن يأتينك سعيا ] أي نادهن يأتينك مسرعات ، قال مجاهد : كانت (طاووسا ،
وغرابا ، وحمامة ، وديكا) ، فذبحهن ثم فعل بهن ما فعل ، ثم دعاهن فأتين مسرعات
[ واعلم أن الله عزيز حكيم ] أي لا يعجزه شيء عما يريده ، حكيم في تدبيره وصنعه.
قال المفسرون : ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بعضهن ببعض حتى اختلط ريشها ودماؤها
ولحومها ، ثم أمسك برءوسها عنده وجزأها أجزاء على الجبال ، ثم دعاهن كما أمره
تعالى ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ،
حتى عادت طيرا كما كانت وأتينه يمشين ليكون أبلغ له في الرؤية لما سأل. ذكره
ابن كثير في تفسيره.
البلاغة :
1- [ ألم تر ] الرؤية قلبية والاستفهام للتعجيب أي ألم تعلم وتوقن.
2- [ يحيي ويميت ] التعبير بالمضارع يفيد التجدد والاستمرار ، والصيغة تفيد القصر
[ ربي الذي يحيي ويميت ] لأن المبتدأ والخبر وردا معرفتين والمعنى أنه وحده
سبحانه هو الذي يحيي ويميت ، وبين كلمتي " يحيي " و " يميت " طباق وهو من المحسنات
البديعية وكذلك بين لفظ " المشرق " و " المغرب " .
3- [ فبهت الذي كفر ] التعبير بالنص السامي يشعر بالعلة ، وأن سبب الحيرة هو كفره ،
ولو قال : فبهت الكافر لما أفاد ذلك المعنى الدقيق.
4- [ أني يحيي هذه الله بعد موتها ] موت القرية هو (موت السكان) فهو من قبيل
إطلاق المحل وإرادة الحال ، ويسمى " المجاز المرسل " .
5- [ ثم نكسوها لحما ] نسترها به كما يستر الجسد باللباس ، قال أبو حيان : الكسوة
حقيقة هي ما وراء الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى
العظم وهي استعارة في غاية الحسن.
الفوائد :
الأولى : قال مجاهد : ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان ، وكافران ،
فالمؤمنان : " سليمان بن داود " و " ذو القرنين " والكافران " النمرود " و " بختنصر "
الذي خرب بيت المقدس.
الثانية : لما رأى الخليل تجاهل الطاغية معنى (الحياة والموت) وسلوكه التلبيس
والتمويه على الرعاع ، وكان بطلان جوابه من الجلاء بحيث لا يخفى على أحد ، انتقل
إبراهيم إلى حجة أخرى ، لا تجري فيها المغالطة ، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها
بمكابرة أو مشاغبة فقال [ إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ]
فلوى خليل الله عنق الكافر ، حتى أراه عجزه وأخرس لسانه!!.
الثالثة : سؤال الخليل ربه بقوله [ كيف تحي الموتى ] ليس عن شك في قدرة الله ،
عن الحال ، ويؤيد المعنى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) (نحن أحق بالشك من إبراهيم) ومعناه : ونحن
لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى!!.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء