قال الله تعالى : [ سيقول السفهاء من الناس.. إلى .. وما الله بغافل عما يعملون ]
سورة البقرة من آية (142) إلى نهاية آية (144).
المناسبة :
زعم اليهود والنصارى أن قبلة الأنبياء " بيت المقدس " وقد كان (صلى الله عليه وسلم) وهو بمكة
يستقبل بيت المقدس ، فلما أمر (صلى الله عليه وسلم) بالتوجه إلى الكعبة المشرفة ، طعن اليهود في
رسالته ، واتخذوا ذلك ذريعة للنيل من الإسلام ، وقالوا : لقد اشتاق محمد إلى
مولده ، وعن قريب يرجع إلى دين قومه ، فأخبر الله رسوله الكريم بما سيقوله
السفهاء ، ولقنه الحجة الدامغة ليرد عليهم ، وكان هذا الإخبار قبل (تحويل القبلة)
" معجزة " له عليه السلام ، لأنه إخبار عن أمر غيبي.
اللغة :
[ السفهاء ] جمع سفيه وهو الجاهل الرأي ، القليل المعرفة بالمنافع والمضار ، وأصل
السفه : الخفة والرقة ، من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج
[ ولاهم ] صرفهم يقال : ولى عن الشيء وتولى عنه أي انصرف
[ وسطا ] قال الطبري : الوسط في كلام العرب : الخيار وقيل : العدل ، وأصل هذا أن خير
الأشياء أوساطها ، وأن الغلو والتقصير مذمومان
[ عقبيه ] تثنية عقب وهو مؤخر القدم
[ كبيرة ] شاقة وثقيلة
[ شطر ] الشطر في اللغة يأتى بمعنى الجهة ، كقول الشاعر : " تعدو بنا شطر نجد وهي
عائدة " ويأتي بمعنى النصف ، ومنه الحديث " الطهور شطر الإيمان " أي نصف الإيمان.
سبب النزول :
عن البراء قال : لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا
أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله
تعالى : [ قد نرى تقلب وجهك في السماء ] الآية فقال السفهاء من الناس – وهم اليهود
– ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها تعالى : [ قل لله المشرق والمغرب ] إلى آخر
الآية.
التفسير :
[ سيقول السفهاء من الناس ] أي سيقول ضعفاء العقول من الناس
[ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ] أي ما صرفهم وحولهم عن القبلة التي
كانوا يصلون إليها وهي (بيت المقدس) قبلة المرسلين من قبلهم ؟
[ قل لله المشرق والمغرب ] أي قل لهم يا محمد : الجهات كلها لله ، له جل وعلا
المشرق والمغرب ، فأينما ولينا وجوهنا فهناك وجه الله أي قبلته
[ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] أي يهدي عباده المؤمنين إلى الطريق القويم ،
الموصل لسعادة الدارين
[ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ] أي كما هديناكم إلى الإسلام ، كذلك جعلناكم يا معشر
المؤمنين أمة عدولا خيارا
القيامة أن رسلهم بلغتهم ، ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم
[ وما جعلنا القبلة التى كنت عليها ] أي وما أمرناك بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم
صرفناك عنها إلى الكعبة المشرفة
[ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ] أي إلا لنختبر إيمان الناس ،
فنعلم من يصدق الرسول ، ممن يشكك في الدين ، ويرجع إلى الكفر لضعف يقينه
[ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ] أي وإن كان هذا التحويل لشاقاً
وصعباً إلا على الذين هداهم الله
[ وما كان الله ليضيع إيمانكم ] أي ما صح ولا استقام في شرع الله ، أن يضيع الله
صلاتكم إلى بيت المقدس ، بل يثيبكم عليها ، وذلك حين سألوه (صلى الله عليه وسلم) عمن مات وهو يصلي
إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة فنزلت ، وقوله تعالى :
[ إن الله بالناس لرءوف رحيم ] تعليل للحكم أي إنه تعالى عظيم الرحمة بعباده ، لا
يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها
[ قد نرى تقلب وجهك في السماء ] أي كثيرا ما رأينا تردد بصرك يا محمد جهة السماء ،
تشوقاً لتحويل القبلة
[ فول وجهك شطر المسجد الحرام ] أي توجه في صلاتك نحو الكعبة المعظمة
[ وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ] أي وحيثما كنتم أيها المؤمنون ، فتوجهوا في
صلاتكم نحو الكعبة أيضا
[ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ] أي إن اليهود والنصارى ،
ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حق من عند الله ، ولكنهم يفتنون الناس بإلقاء
الشبهات
[ وما الله بغافل عما يعملون ] أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها ،
وفيه وعيد وتهديد لهم بليغ.
البلاغة :
1- في قوله : [ ينقلب على عقبيه ] استعارة تمثيلية حيث مثل لمن يرتد عن دينه ، بمن
ينقلب على عقبيه ، كأنه يرجع إلى الخلف ، وينتكس فى دينه كما انتكس في مشيه.
2- [ لرءوف رحيم ] الرأفة : شدة الرحمة ، وقدم الأبلغ مراعاة للفاصلة وهي الميمم
في قوله : [ صراط مستقيم ] وقوله : [ رءوف رحيم ] وكلاهما من صيغ المبالغة.
3- [ فول وجهك ] أطلق الوجه وأراد به الذات كقوله : [ ويبقى وجه ربك ] وهذا النوع
يسمى " المجاز المرسل " من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، ومثله قولهم : هذا ما
جنته يدك ، أي ما فعلته بنفسك.
الفوائد :
الأولى : أخرج البخارى في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : " يدعى نوح عليه السلام
يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته :
هل بلغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته
فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله عز وجل [ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
عليكم شهيدا ] .
الثانية : سمى الله تعالى الصلاة " إيمانا " في قوله : [ وما كان الله ليضيع
إيمانكم ] أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلا بها ، ولأنها تشتمل على نية وقول
وعمل ((روي عن البراء بن عازب أنه قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ،
فقال الناس : كيف بإخواننا الذين صلوا إلى غير الكعبة ؟ فأنزل الله الآية ، أخرجه
الترمذي )).
الثالثة : في التعبير عن الكعبة (بالمسجد الحرام) إشارة إلى أن الواجب مراعاة
الجهة دون العين ، لأن في إصابة (عين الكعبة) من البعيد حرجاً عظيما على الناس.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء