قال الله تعالى : [ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهة.. إلى .. بما كانوا يفسقون ] سورة البقرة من آية (55) إلى نهاية آية (59).
المناسبة :
بعد أن ذكرهم تعالى بالنعم ، بين لونا من ألوان طغيانهم وجحودهم ، وتبديلهم لأوامر الله ، وهم مع الكفر والعصيان ، يعاملون باللطف والإحسان ، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم !! قال الطبري : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل ، أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالا ، يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم كما قال تعالى : [ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ] وقال لهم : صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم ففعلوا ، وخرج بهم إلى " طور سيناء " فقالوا لموسى : اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا فقال : أفعل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام ، حتى تغشى الجبل كله ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوا الله يكلم موسى يأمره وينهاه ، فلما انكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم فقالوا لموسى مقالتهم الشنيعة [ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ] .
اللغة :
[ جهرة ] علانية ، وأصل الجهر : الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة والجهر بالمعاصي يعني المظاهرة بها ، تقول : رأيت الأمير جهاراً أي غير مستتر بشئ ، وقال ابن عباس : جهرة : عيانا ، [ الصاعقة ] صيحة العذاب أو هي نار محرقة
[ بعثناكم ] أحييناكم ، قال الطبري : وأصل البعث : إثارة الشيء من محله
[ الغمام ] جمع غمامه كسحابة وسحاب ، وزنا ومعنى ، لأنها تغم السماء أي تسترها ، وكل مغطى فهو مغموم ، وغم الهلال : إذا غطاه الغيم فلم ير.
[ حطة ] : مصدر أي حط عنا ذنوبنا ، وهي كلمة استغفار ومعناها : اغفر خطايانا.
[ رجزا ] عذابا ومنه [ لئن كشفت عنا الرجز ] أي العذاب
[ يفسقون ] الفسق : الخروج من الطاعة.
التفسير :
[ وإذ قلتم يا موسى ] أي اذكروا يا بني إسرائيل ، حين خرجتم مع موسى ، لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل ، فقلتم
[ لن نؤمن لك ] أي لن نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله
[ حتى نرى الله جهرة ] أي حتى نرى الله علانية
[ فأخذتكم الصاعقة ] أي أرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم بها
[ وأنتم تنظرون ] أي ما حل بكم ، حيث كان يموت الواحد أمام الآخر.. ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم! ؟ وما زال يدعو ربه حتى أحياهم الله له ، قال تعالى :
[ ثم بعثناكم من بعد موتكم ] أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوما وليلة ، فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون
[ لعلكم تشكرون ] أي لتشكروا الله على إنعامه عليكم ، بالبعث بعد الموت ، وقد رأيتم هذه الآية الباهرة بأعينكم. ثم ذكرهم تعالى بنعمته عليهم وهم فى الصحراء ، في أرض التيه ، لما امتنعوا من دخول مدينة (الجبارين) وقتالهم ، وقال لموسى [ اذهب أنت وربك فقاتلا ] فعوقبوا على ذلك بالضياع أربعين سنة ، يتيهون في الأرض ، ثم قال تعالى :
[ وظللنا عليكم الغمام ] أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس ، وجعلناه عليكم كالظلة
[ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ] أي أنعمنا عليكم بأنواع من الطعام والشراب ، من غير كد ولا تعب ، والمن كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ، والسلوى : طير يشبه " السماني " لذيذ الطعم كرامة من الله لهم
[ كلوا من طيبات ما رزقناكم ] أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله
[ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] أي أنهم كفروا هذه النعم الجليلة ، وما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم ، لأن وبال العصيان راجع عليهم
[ فكلوا منها حيث شئتم رغدا ] أي كلوا منها أكلا واسعا هنيئا من حيث أردتم
[ وادخلوا الباب سجدا ] أي وادخلوا باب القرية ، ساجدين لله ، شكرا على خلاصكم من التيه
[ وقولوا حطة ] أي قولوا يا ربنا حط عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا
[ نغفر لكم خطاياكم ] أي نمح عنكم ذنوبكم ، ونكفر سيئاتكم
[ وسنزيد المحسنين ] أي نزيد من أحسن إحسانا ، بالثواب العظيم ، والأجر الجزيل
[ فبدل الذين ظلموا ] أي غير الظالمون أمر الله فقالوا :
[ قولا غير الذي قيل لهم ] حيث دخلوا يزحفون على أستاهم أعنى " أدبارهم " وقالوا على سبيل السخرية والاستهزاء : " حبة فى شعيرة " وسخروا من أوامر الله
[ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء ] أي أنزلنا عليهم طاعونا وبلاء
[ بما كانوا يفسقون ] أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله !! روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة منهم سبعون ألفا ، وكان ذلك عقوبة لهم على إجرامهم.
البلاغة :
أولا : إنما قيد البعث بعد الموت [ ثم بعثناكم من بعد موتكم ] لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي ، ولدفع ما عساه يتوهم أن بعثهم كان بعد إغماء أو بعد نوم.
ثانيا : في الآية إيجاز بالحذف في قوله : [ كلوا ] أي قلنا لهم كلوا وفي قوله : [ وما ظلمونا ] تقديره فظلموا أنفسهم بأن كفروا وما ظلمونا بذلك ، دل على هذا الحذف قوله : [ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] والجمع بين صيغتى الماضي والمضارع [ ظلمونا ] و[ يظلمون ] للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم على الكفر.
ثالثا : وضع الظاهر مكان الضمير في قوله [ فأنزلنا على الذين ظلموا ] ولم يقل " فأنزلنا عليهم " لزيادة التقبيح ، والمبالغة في الذم والتقريع ، وتنكير [ رجزا ] للتهويل والتفخيم.
تنبيه :
قال الرغب : تخصيص قوله : [ رجزا من السماء ] هو أن العذاب ضربان : ضرب قد يمكن دفاعه ، وهو كل عذاب جاء على يد آدمي ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق ، وضرب لا يمكن دفاعه بقوة آدمي كالطاعون والصاعقة والموت وهو المراد بقوله : [ رجزا من السماء ] .
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء