قال الله تعالى : [ أتأمرون الناس بالبر.. إلى .. ولا هم ينصرون ] سورة البقرة من آية (44) إلى نهاية آية (48).
اللغة :
[ بالبر ] البر : عمل الخير والمعروف ، ومنه البر والبرية للسعة ، وهو اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وفي الحديث " البر لا يبلى والذنب لا ينسى "
[ وتنسون ] : تتركون والنسيان يأتي بمعنى الترك كقوله تعالى [ نسو الله فنسيهم ] وهو المراد هنا ، ويأتي بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة كقوله : [ فنسي ولم نجد له عزما ]
[ تتلون ] : تقرءون وتدرسون
[ الخاشعين ] الخاشع : المتواضع وأصله من الاستكانة والذل ، قال الزجاج ، الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه ، وخشعت الأصوات : سكنت
[ يظنون ] الظن هنا بمعنى اليقين لا الشك ، وهو من الأضداد ، قال أبو عبيدة : العرب تقول لليقين ظن ، وللشك ظن وقد كثر استعمال الظن بمعنى اليقين ومنه [ إنى ظننت أنى ملاق حسابيه ] [ فظنوا أنهم مواقعوها ] ، أي أيقنوا وتحققوا من دخول الجحيم.
[ شفاعة ] الشفاعة مأخوذة من الشفع ضد الوتر ، وهي ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، ولهذا سميت شفاعة ، فهي إذا إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع
[ عدل ] بفتح العين فداء ، وبكسرها معناه : المثل ، يقال : عدل وعديل للذي يماثلك.
المناسبة :
لا تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل ، وفي هذه الآيات ذم وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم ، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.
سبب النزول :
نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود ، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا : اثبتوا على دين محمد فإنه حق ، فكانوا يأمرون الناس بالإيمان ولا يفعلونه.
التفسير :
يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ [ أتأمرون الناس بالبر ] أي أتدعون الناس إلى الخير ، وإلى الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وسلم)
[ وتنسون أنفسكم ] أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير
[ وأنتم تتلون الكتاب ] أي حال كونكم تقرءون التوراة ، وفيها صفة ونعت محمد عليه الصلاة والسلام
[ أفلا تعقلون ] أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح ؟ فترجعون عنه ؟! ثم بين لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات ، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال :
[ واستعينوا ] أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها
[ بالصبر والصلاة ] أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية ، وبالصلاة التى هي عماد الدين
[ وإنها ] أي الصلاة
[ لكبيرة ] أي شاقة وثقيلة
[ إلا على الخاشعين ] أي المتواضعين المستكينين ، الخاضعين لأمر الله ، الذين صفت نفوسهم لله
[ الذين يظنون ] أي يعتقدون اعتقادا جازما لا يخالطه شك
[ أنهم ملاقوا ربهم ] أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم
[ وأنهم إليه راجعون ] أي معادهم إليه يوم الدين !! ثم ذكرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال :
[ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ] بالشكر عليها بطاعتي
[ وأني فضلتكم ] أي فضلت آباءكم
[ على العالمين ] أي عالمي زمانهم ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وجعلهم سادة وملوكاً ، وتفضيل الآباء شرف للأبناء
[ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ] أي خافوا ذلك اليوم الرهيب ، الذي لا تقضي نفس عن أخرى شيئا من الحقوق
[ ولا يؤخذ منها عدل ] أي لا يقبل منها فداء
[ ولا هم ينصرون ] أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
البلاغة :
أولا : [ أتأمرون ] الاستفهام خرج عن حقيقته إلى معنى التوبيخ والتقريع.
ثانيا : أتى بالمضارع [ أتأمرون ] وإن كان قد وقع ذلك منهم ، لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث ، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان [ وتنسون أنفسكم ] مبالغة فى الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلقه بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة ، ولا يخفى ما في الجملة الحالية [ وأنتم تتلون الكتاب ] من التبكيت والتقريع والتوبيخ ، على سوء الفعل والصنيع!!
ثالثا : [ وأني فضلتكم على العالمين ] هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال ، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور ، فلما قال : [ اذكروا نعمتي ] عم جميع النعم فلما عطف [ وأني فضلتكم ] كان من باب عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأن الخاص ، لأنه نعمة أكبر.
رابعاً : [ واتقوا يوما ] التنكير للتهويل أي يوما شديد الهول ، وتنكير النفس [ نفس عن نفس ] ليفيد العموم والإقناط الكلي.
الفوائد :
الفائدة الأولى : قال القرطبي : إنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، تنويهاً بذكرها ، وقد كان عليه السلام إذا حز به أمر (أغمه) فزع إلى الصلاة ، وكان يقول (أرحنا بها يا بلال).
الثانية : قال علي كرم الله وجهه : " قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسك " ومن دعا غيره إلى الهدى ولم يعمل به ، كان كالسراج يضئ للناس ويحرق نفسه ، قال الشاعر :
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم
وقال أبو العتاهية : وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع
وقال آخر : وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوى الناس وهو عليل
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء